ربما يكون السؤال مباغتاً وتحتاج للإجابة عليه بعض الوقت كي تستجمع أفكارك..
حسناً.. سأتركك قليلاً لتستوعب السؤال..
قد يتبادر إلى ذهنك الآن صورة نتنياهو ومذابحه الوحشية، وربما تذكر أن إيريل شارون هو بطل (الثغرة) وإن كنت لا تعرف ما هي هذه الثغرة بالضبط، وستتوالى في ذهنك صور موشيه ديان وجولدا مائير وتيودور هرتزل وحائط البراق (الذي يسميه اليهود بحائط المبكى)، والكيبا (غطاء الرأس اليهودي المميز)، وستتردد في ذهنك عبارات شعب الله المختار والهولوكست والتلمود وهيكل سليمان والكنيست وأرض الميعاد، وربما ستتذكر أيضاً أسماء بعض المذابح الإسرائيلية كدير ياسين وصبرا وشاتيلا وإن لم تسعفك ذاكرتك بمعلومات عنها..
باختصار ستريح نفسك وستصل في النهاية إلى أن إسرائيل هي عدو الأمة العربية الرئيسي، حيث احتلت فلسطين بعد انتصارها على العرب سنة 1948 ومن حينها وهي تقف عقبة في طريق تقدمنا ورقينا، بل ودائما ما تحيك المؤامرات ضد كل الدول العربية من المحيط إلى الخليج..
قد يبدو كل هذا جميلاً، ولكن الحقيقة هي أننا بهذه الطريقة لا نعرف شيئاً عن إسرائيل!
فقصة إسرائيل لم تبدأ من سنة 1948 ولا من وعد بلفور سنة 1917 ولا حتى من المؤتمر الصهيوني الأول سنة 1898..
ولكن القصة تبدأ قبل ذلك بكثير.. بكثير جداً في الواقع..
وربما كان من المناسب أن نبدأ القصة بأن نعرف ما هو أصل ذلك العهد الأبدي الذي قطعه الله لإبراهيم، وما الذي تعنيه ثلاث كلمات نسمعها كثيراً دون أن نتوقف عندها وهي: العبريون أو العبرانيون - والإسرائيليون - واليهود..
الشعب المختار
يذكر سفر التكوين أنه بعد طوفان نوح تكاثرت الأمم والشعوب، وانتشرت المعاصي والشرور مرة أخرى، فاختار الله أبرام -الذي سيصبح اسمه إبراهيم بعد ذلك- ليباركه هو ونسله، وكان أبرام على ما تذكر التوراة من الجيل العاشر من أحفاد سام بن نوح، وهكذا أمر الله أبرام بالخروج من موطنه "أور الكلدانيين" -العراق حالياً- إلى أرض كنعان -فلسطين الآن، وعندما بلغ أبرام التاسعة والتسعين من عمره ظهر له الرب على ما يروي سفر التكوين قائلاً: "أنا الله القدير، سر أمامي وكن كاملاً، فاجعل عهدي بيني وبينك، وأكثرك كثيراً جداً"، فسقط أبرام على وجهه، وتكلم الله معه قائلاً: "أما أنا فهذا عهدي معك، وتكون أباً لجمهور من الأمم فلا يدعى اسمك بعد أبرام، بل يكون اسمك إبراهيم؛ لأني أجعلك أباً لجمهور من الأمم، وأثمرك كثيراً جداً، وأجعلك أمماً، وملوك منك يخرجون، وأقيم عهدي بيني وبينك، ومن نسلك من بعدك في أجيالهم، عهداً أبدياً، لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك، وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكاً أبدياً وأكون إلههم"، أما علامة العهد كما قال الله لإبراهيم فهي الاختتان، "فيكون عهدي في لحمكم عهداً أبدياً"، وأما الذكر الذي لا يختتن فيكون كأنما نكث عهد الله!
ويرى الدكتور عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- في موسوعته القيمة "اليهود واليهودية والصهيونية" أن فكرة "تقديس الشعب" هي فكرة دينية راسخة عند اليهود، وهي دليل واضح على "الحلول الإلهي" في الفكر اليهودي، بمعنى أنهم جعلوا الإله يحل في الأرض لتصبح أرض الميعاد أرضاً مقدسة ومركزاً للكون كله، ويحل في الشعب فيصبح شعباً مختاراً ومقدساً وأزلياً، أو كما جاء في سفر التثنية: "لأنك شعب مقدس للرب إلهك، وقد اختارك الرب لكي تكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض"!
الذي قاتل الله!
يرجع أصل كلمة "العبرانيين" إلى الفعل "عَبَر" بمعنى تخطّى واجتاز، وقد كانت تسمية عبري أو عبراني تطلق على كل من عبر نهر الفرات إلى الشام، وهو الطريق الذي سلكه نبي الله إبراهيم "عليه السلام"، ولا ندري لماذا استأثر اليهود وحدهم بلقب العبرانيين مع أن إبراهيم هو أبو العرب أيضاً عن طريق ابنه إسماعيل عليهما السلام كما أنه أبو اليهود، وهناك رأي آخر يجعل تسمية العبرانيين نسبة إلى عابر حفيد سام بن نوح وأحد أجداد إبراهيم..
أما كلمة بني إسرائيل أو الإسرائيليين فهي ترتبط بقصة طريفة ترويها التوراة في سفر التكوين عن نبي الله يعقوب، إذ كان في طريقه في أرض كنعان هو وأهله، فعبر وادياً هو ومن معه حتى إذا انتهى عبورهم عاد من جديد لسبب ما، فوجد في انتظاره "رجلاً" ليس كالبشر فصارعه هذا الرجل حتى مطلع الفجر "و لما رأى -أي ذلك الرجل الغريب- أنه لا يقدر عليه -أي على يعقوب- ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه، وقال: أطلقني؛ لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا أطلقك إن لم تباركني، فقال له: ما اسمك؟ قال: يعقوب، فقال: لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب، بل إسرائيل؛ لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت".
وفي موضع آخر من سفر التكوين تختلف الرواية بعض الشيء: "وظهر الله ليعقوب أيضاً حين جاء من فدان آرام وباركه، وقال له الله: اسمك يعقوب، لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب، بل يكون اسمك إسرائيل، فدعي اسمه إسرائيل، وقال له الله: أنا الله القدير، أثمر وأكثر أمة وجماعة أمم تكون منك، وملوك سيخرجون من صلبك، والأرض التي أعطيت إبراهيم وإسحق لك أعطيها، ولنسلك من بعدك أعطي الأرض، ثم صعد الله عنه في المكان الذي فيه تكلم معه".
وعلى ذلك تكون تلك المحادثة التي جريت بين الله "سبحانه وتعالى" ويعقوب طوال الليل(!!) ليليها هذا الوعد بفلسطين له وأبنائه، وهكذا يمتزج الفلكلور والأساطير القديمة بالأهداف السياسية، دون أن يكون لنا دليل إلا النص الذي مع اليهود، ولو أنهم لم يحاولوا إلزام الإنسانية كلها به لهان الأمر، لكن الأسطورة انتهت وبقيت كلمة "الوعد" وسميت فلسطين عندهم "أرض الميعاد" بطريقة جعلوها حكماً إلهياً لا يقبل المناقشة.
عن الحلف الأبدي بين الرب والشعب
أما تسميتهم "باليهود" فإنها أحدث من ذلك بكثير، وترجع إلى الوقت الذي نجح فيه داود وسليمان وأبناؤهما في إقامة مملكة في فلسطين حوالي سنة 1000 قبل الميلاد، ولما كانت هذه الأسرة الحاكمة تنتمي إلى قبيلة من العبريين تسمى "سبط يهوذا" فقد نسبوا إليها الرعية كلها وأصبحوا يسمون "اليهود"، وبصفة عامة فقد أصبح من الشائع إطلاق مصطلح "اليهود" تجاوزاً على أبناء يعقوب وذريتهم..
وحقيقة ليس من السهل التحقق من بدايات التاريخ اليهودي، فاليهود هم الأمة الوحيدة التي كتبت تاريخها بيدها وجعلته كله وحياً من السماء نازلاً بإرادة الله، بحيث يعلو فوق الجدل والنقاش، وهم عندما كتبوا تاريخهم هذا "استعاروا" المأثورات الشعبية لأمم قديمة كثيرة وأضافوا إليها ليخرجوا في النهاية بملحمة تبدأ مثل ملاحم السومريين والفراعنة بالحديث عن خلق العالم وخلق الإنسان.
وتحاول تلك الملحمة إبراز فكرة أساسية هي أن كل عملية الخلق وكل التدبير الحكيم الذي دبره الخالق، وكل تفاصيل تلك الرواية على مسرح السماء والأرض كانت لهدف واحد، وهو اختيار بني إسرائيل وتسليمهم دور البطولة الأبدي على مسرح الإنسانية، أما الأمم الأخرى فهي ليست إلا شخوصاً مكملة للرواية على هذا المسرح الكبير، ولا أهمية لهم إلا بقدر ما يسهمون في إبراز مجد اليهود، وملحمتهم هذه مكونة من عناصر مختلفة اختلطت فيها حكمة الحكماء وشرائع الأنبياء بأساطير الأبطال الخرافيين وصاغوا كل ذلك الخليط العجيب ليؤكد دائماً على الحلف الأبدي بين "الرب والشعب"..
إذن فبداية وصول هؤلاء العبريين إلى فلسطين لا تعتمد على أية شهادات تاريخية صحيحة من حفائر أو وثائق أو آثار، وكل اعتمادها على قصص ومسامرات وأساطير أغلبها مسروق من خرافات الأمم الأخرى، ومع ذلك فإن كل ما روي في هذا الصدد يشير بصراحة قاطعة إلى أن هؤلاء العبريين كانوا غرباء على فلسطين، وأنهم وصلوا إليها مهاجرين وأنهم اغتصبوا الأجزاء التي أقاموا فيها بلا أي سند واكتفوا في تبرير ذلك بقولهم أن إله آبائهم هو الذي وعدهم بها وأعطاهم إياها، أو كما تذكر التوراة صراحة في سفر التثنية على لسان موسى عليه السلام: "آرامياً تائهاً كان أبي، فانحدر إلى مصر وتغرّب هناك في نفر قليل، فصار هناك أمة كبيرة وعظيمة وكثيرة، فأساء إلينا المصريون وثقّلوا علينا وجعلوا علينا عبودية قاسية، فلما صرخنا إلى الرب إله آبائنا، سمع الرب صوتنا، ورأى مشقتنا وتعبنا وضيقنا، فأخرجنا الرب من مصر بيد شديدة وذراع رفيعة ومخاوف عظيمة وآيات وعجائب، وأدخلنا إلى هذا المكان، وأعطانا هذه الأرض، أرضاً تفيض لبناً وعسلاً".
وهكذا تلخص التوراة نفسها قصة التسلل إلى فلسطين في قديم الزمان..
حسناً.. سأتركك قليلاً لتستوعب السؤال..
قد يتبادر إلى ذهنك الآن صورة نتنياهو ومذابحه الوحشية، وربما تذكر أن إيريل شارون هو بطل (الثغرة) وإن كنت لا تعرف ما هي هذه الثغرة بالضبط، وستتوالى في ذهنك صور موشيه ديان وجولدا مائير وتيودور هرتزل وحائط البراق (الذي يسميه اليهود بحائط المبكى)، والكيبا (غطاء الرأس اليهودي المميز)، وستتردد في ذهنك عبارات شعب الله المختار والهولوكست والتلمود وهيكل سليمان والكنيست وأرض الميعاد، وربما ستتذكر أيضاً أسماء بعض المذابح الإسرائيلية كدير ياسين وصبرا وشاتيلا وإن لم تسعفك ذاكرتك بمعلومات عنها..
باختصار ستريح نفسك وستصل في النهاية إلى أن إسرائيل هي عدو الأمة العربية الرئيسي، حيث احتلت فلسطين بعد انتصارها على العرب سنة 1948 ومن حينها وهي تقف عقبة في طريق تقدمنا ورقينا، بل ودائما ما تحيك المؤامرات ضد كل الدول العربية من المحيط إلى الخليج..
قد يبدو كل هذا جميلاً، ولكن الحقيقة هي أننا بهذه الطريقة لا نعرف شيئاً عن إسرائيل!
فقصة إسرائيل لم تبدأ من سنة 1948 ولا من وعد بلفور سنة 1917 ولا حتى من المؤتمر الصهيوني الأول سنة 1898..
ولكن القصة تبدأ قبل ذلك بكثير.. بكثير جداً في الواقع..
وربما كان من المناسب أن نبدأ القصة بأن نعرف ما هو أصل ذلك العهد الأبدي الذي قطعه الله لإبراهيم، وما الذي تعنيه ثلاث كلمات نسمعها كثيراً دون أن نتوقف عندها وهي: العبريون أو العبرانيون - والإسرائيليون - واليهود..
الشعب المختار
يذكر سفر التكوين أنه بعد طوفان نوح تكاثرت الأمم والشعوب، وانتشرت المعاصي والشرور مرة أخرى، فاختار الله أبرام -الذي سيصبح اسمه إبراهيم بعد ذلك- ليباركه هو ونسله، وكان أبرام على ما تذكر التوراة من الجيل العاشر من أحفاد سام بن نوح، وهكذا أمر الله أبرام بالخروج من موطنه "أور الكلدانيين" -العراق حالياً- إلى أرض كنعان -فلسطين الآن، وعندما بلغ أبرام التاسعة والتسعين من عمره ظهر له الرب على ما يروي سفر التكوين قائلاً: "أنا الله القدير، سر أمامي وكن كاملاً، فاجعل عهدي بيني وبينك، وأكثرك كثيراً جداً"، فسقط أبرام على وجهه، وتكلم الله معه قائلاً: "أما أنا فهذا عهدي معك، وتكون أباً لجمهور من الأمم فلا يدعى اسمك بعد أبرام، بل يكون اسمك إبراهيم؛ لأني أجعلك أباً لجمهور من الأمم، وأثمرك كثيراً جداً، وأجعلك أمماً، وملوك منك يخرجون، وأقيم عهدي بيني وبينك، ومن نسلك من بعدك في أجيالهم، عهداً أبدياً، لأكون إلهاً لك ولنسلك من بعدك، وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان ملكاً أبدياً وأكون إلههم"، أما علامة العهد كما قال الله لإبراهيم فهي الاختتان، "فيكون عهدي في لحمكم عهداً أبدياً"، وأما الذكر الذي لا يختتن فيكون كأنما نكث عهد الله!
ويرى الدكتور عبد الوهاب المسيري -رحمه الله- في موسوعته القيمة "اليهود واليهودية والصهيونية" أن فكرة "تقديس الشعب" هي فكرة دينية راسخة عند اليهود، وهي دليل واضح على "الحلول الإلهي" في الفكر اليهودي، بمعنى أنهم جعلوا الإله يحل في الأرض لتصبح أرض الميعاد أرضاً مقدسة ومركزاً للكون كله، ويحل في الشعب فيصبح شعباً مختاراً ومقدساً وأزلياً، أو كما جاء في سفر التثنية: "لأنك شعب مقدس للرب إلهك، وقد اختارك الرب لكي تكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض"!
الذي قاتل الله!
يرجع أصل كلمة "العبرانيين" إلى الفعل "عَبَر" بمعنى تخطّى واجتاز، وقد كانت تسمية عبري أو عبراني تطلق على كل من عبر نهر الفرات إلى الشام، وهو الطريق الذي سلكه نبي الله إبراهيم "عليه السلام"، ولا ندري لماذا استأثر اليهود وحدهم بلقب العبرانيين مع أن إبراهيم هو أبو العرب أيضاً عن طريق ابنه إسماعيل عليهما السلام كما أنه أبو اليهود، وهناك رأي آخر يجعل تسمية العبرانيين نسبة إلى عابر حفيد سام بن نوح وأحد أجداد إبراهيم..
أما كلمة بني إسرائيل أو الإسرائيليين فهي ترتبط بقصة طريفة ترويها التوراة في سفر التكوين عن نبي الله يعقوب، إذ كان في طريقه في أرض كنعان هو وأهله، فعبر وادياً هو ومن معه حتى إذا انتهى عبورهم عاد من جديد لسبب ما، فوجد في انتظاره "رجلاً" ليس كالبشر فصارعه هذا الرجل حتى مطلع الفجر "و لما رأى -أي ذلك الرجل الغريب- أنه لا يقدر عليه -أي على يعقوب- ضرب حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب في مصارعته معه، وقال: أطلقني؛ لأنه قد طلع الفجر، فقال: لا أطلقك إن لم تباركني، فقال له: ما اسمك؟ قال: يعقوب، فقال: لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب، بل إسرائيل؛ لأنك جاهدت مع الله والناس وقدرت".
وفي موضع آخر من سفر التكوين تختلف الرواية بعض الشيء: "وظهر الله ليعقوب أيضاً حين جاء من فدان آرام وباركه، وقال له الله: اسمك يعقوب، لا يدعى اسمك فيما بعد يعقوب، بل يكون اسمك إسرائيل، فدعي اسمه إسرائيل، وقال له الله: أنا الله القدير، أثمر وأكثر أمة وجماعة أمم تكون منك، وملوك سيخرجون من صلبك، والأرض التي أعطيت إبراهيم وإسحق لك أعطيها، ولنسلك من بعدك أعطي الأرض، ثم صعد الله عنه في المكان الذي فيه تكلم معه".
وعلى ذلك تكون تلك المحادثة التي جريت بين الله "سبحانه وتعالى" ويعقوب طوال الليل(!!) ليليها هذا الوعد بفلسطين له وأبنائه، وهكذا يمتزج الفلكلور والأساطير القديمة بالأهداف السياسية، دون أن يكون لنا دليل إلا النص الذي مع اليهود، ولو أنهم لم يحاولوا إلزام الإنسانية كلها به لهان الأمر، لكن الأسطورة انتهت وبقيت كلمة "الوعد" وسميت فلسطين عندهم "أرض الميعاد" بطريقة جعلوها حكماً إلهياً لا يقبل المناقشة.
عن الحلف الأبدي بين الرب والشعب
أما تسميتهم "باليهود" فإنها أحدث من ذلك بكثير، وترجع إلى الوقت الذي نجح فيه داود وسليمان وأبناؤهما في إقامة مملكة في فلسطين حوالي سنة 1000 قبل الميلاد، ولما كانت هذه الأسرة الحاكمة تنتمي إلى قبيلة من العبريين تسمى "سبط يهوذا" فقد نسبوا إليها الرعية كلها وأصبحوا يسمون "اليهود"، وبصفة عامة فقد أصبح من الشائع إطلاق مصطلح "اليهود" تجاوزاً على أبناء يعقوب وذريتهم..
وحقيقة ليس من السهل التحقق من بدايات التاريخ اليهودي، فاليهود هم الأمة الوحيدة التي كتبت تاريخها بيدها وجعلته كله وحياً من السماء نازلاً بإرادة الله، بحيث يعلو فوق الجدل والنقاش، وهم عندما كتبوا تاريخهم هذا "استعاروا" المأثورات الشعبية لأمم قديمة كثيرة وأضافوا إليها ليخرجوا في النهاية بملحمة تبدأ مثل ملاحم السومريين والفراعنة بالحديث عن خلق العالم وخلق الإنسان.
وتحاول تلك الملحمة إبراز فكرة أساسية هي أن كل عملية الخلق وكل التدبير الحكيم الذي دبره الخالق، وكل تفاصيل تلك الرواية على مسرح السماء والأرض كانت لهدف واحد، وهو اختيار بني إسرائيل وتسليمهم دور البطولة الأبدي على مسرح الإنسانية، أما الأمم الأخرى فهي ليست إلا شخوصاً مكملة للرواية على هذا المسرح الكبير، ولا أهمية لهم إلا بقدر ما يسهمون في إبراز مجد اليهود، وملحمتهم هذه مكونة من عناصر مختلفة اختلطت فيها حكمة الحكماء وشرائع الأنبياء بأساطير الأبطال الخرافيين وصاغوا كل ذلك الخليط العجيب ليؤكد دائماً على الحلف الأبدي بين "الرب والشعب"..
إذن فبداية وصول هؤلاء العبريين إلى فلسطين لا تعتمد على أية شهادات تاريخية صحيحة من حفائر أو وثائق أو آثار، وكل اعتمادها على قصص ومسامرات وأساطير أغلبها مسروق من خرافات الأمم الأخرى، ومع ذلك فإن كل ما روي في هذا الصدد يشير بصراحة قاطعة إلى أن هؤلاء العبريين كانوا غرباء على فلسطين، وأنهم وصلوا إليها مهاجرين وأنهم اغتصبوا الأجزاء التي أقاموا فيها بلا أي سند واكتفوا في تبرير ذلك بقولهم أن إله آبائهم هو الذي وعدهم بها وأعطاهم إياها، أو كما تذكر التوراة صراحة في سفر التثنية على لسان موسى عليه السلام: "آرامياً تائهاً كان أبي، فانحدر إلى مصر وتغرّب هناك في نفر قليل، فصار هناك أمة كبيرة وعظيمة وكثيرة، فأساء إلينا المصريون وثقّلوا علينا وجعلوا علينا عبودية قاسية، فلما صرخنا إلى الرب إله آبائنا، سمع الرب صوتنا، ورأى مشقتنا وتعبنا وضيقنا، فأخرجنا الرب من مصر بيد شديدة وذراع رفيعة ومخاوف عظيمة وآيات وعجائب، وأدخلنا إلى هذا المكان، وأعطانا هذه الأرض، أرضاً تفيض لبناً وعسلاً".
وهكذا تلخص التوراة نفسها قصة التسلل إلى فلسطين في قديم الزمان..