"مصر لا تتدهور وليست عرضة للانفجار الاجتماعي أو الحروب الأهلية أو المجاعات، وكل ما يحصل بها مجرد توترات، ولو كانت في ذلك الخطر الذي تتكلمون عنه لتركتها للعمل في أي جامعة أو مركز بحثي أجنبي، مش نغلب، وقد أنجزت مصر شيئا في كل ملف له علاقة بالتقدم، وان كانت لم تنجز المهمة بعد، وفى تقديري فان أمامها نحو 10 إلى 15 عاما لتتغير".
هكذا تحدث الدكتور عبد المنعم سعيد، رئيس مجلس إدارة الأهرام إلى جمع من المثقفين في لقاء رمضاني بنادي جاردن سيتي، أداره الكاتب الكبير مكرم محمد احمد .
أدرك سعيد من البداية ما سيدخل إليه من مجادلات صعبة فاخذ وقتا أطول مما ينبغي للتمهيد النظري للحوار تكلم فيه عن ضرورة ألا نتوقف طويلا عند 2010 و2011، والانتخابات النيابية والرئاسية والتوريث، لنتمكن من الحوار حول مستقبل مصر في المدى الأبعد.
واستعرض النماذج الأربعة للتغيير التي حدثت في العالم الحديث وهى:
القسري: أي عبر الثورات.
والتنموي: بتحقيق معدل نمو لا يقل عن 7% سنويا لعقدين أو أكثر، ما يترتب عليه تهيئة الأرض للتحول إلى الديمقراطية، والعلمانية، والمساواة، وقبول الآخر، وضرب مثلا هنا باسبانيا، والبرتغال، وكوريا الجنوبية.
التغيير السياسي الذي يعقبه تغير اقتصادي واجتماعي: كما جرى في أوروبا الشرقية بعد انهيار سور برلين.
التداخل الطويل الأمد بين السياسي والاقتصادي كما في التجربة الغربية والأمريكية بشكل عام.
وأعقب ذلك بالقول أن مصر لا تقبل الطفرات السياسية والاجتماعية، وأنها لذلك اقرب إلى تبنى النمط الأخير.
قال سعيد انه يحب أن يأخذ على عاتقه مهمة فك العقد التي تقف في طريق تطور مصر، ولذلك دخل الحزب الوطني، ويفضل البقاء فيه رغم خلافات في وجهات النظر بينه كليبرالي، وبين آخرين، ويرى أن خروج الدكتور أسامة الغزالي حرب ليؤسس حزبا ليبراليا، لم يكن له نتائج ذات بال ما دعاه أكثر- أي سعيد - إلى التمسك بموقفه بالبقاء في الوطني.
وركز سعيد على بعض "العقد" التي تعوق تقدم مصر ومنها حداثة تجربتنا في دفع الضرائب، وبالتالي لم يتبلور لدينا مفهوم "لا ضرائب بدون تمثيل"، الذي كان أساس العملية الديمقراطية بالغرب، وكذا ضعف الطبقة الصناعية، وغياب وعيها بمفهوم تعميق الصناعة، ومشاكل التكامل، والتجانس القومي وعدم جاهزية البنية التحتية، والاتصالية، وتراجع النخبة المصرية وأوضح هنا انه لن يمل من الدعوة إلى دراسة تجربة وضع دستور 1923 وما قامت به اللجنة المهمة التي أسميت لجنة الأشقياء، في إشارة إلى ما كانت تتمتع به النخبة المصرية وقتها من قدرة وطموح.
وفى الجانب المقابل قال سعيد انه متفائل نسبيا بقدرة الجيل الذي يبلغ الثلاثينات الآن على استيعاب التكنولوجيا بسرعة نعجز نحن عن ملاحقتها، وسيكون ذلك الجيل في المقدمة بعد 10 سنوات، ومسلحا بإيمان أكيد بالتعددية، اكتسبه من العالم الافتراضي الذي بناه لنفسه وعاش فيه بعيدا عن أي رقابة.
وردا على مداخلات حول الفقر والأمية المتفشيان في 40 % من السكان بينما أنهت دولة مثل اليابان الأمية في 1906، قال سعيد: إن الـ60 % الباقين ودون مجادلة في النسب يعادلون سكان عدة دول عربية،
ويستطيعون القيام بمهام النهضة وزيادة.
وردا على مقاطعة تشير إلى أن الأربعين في المائة الفقراء والهامشيين يعادلون أيضا سكان عدة دول عربية وبإمكانهم تعطيل كل المراكب السائرة حال انفجارهم، قال الدكتور عبد المنعم: لو كان ذلك واردا فان ما يعادله هو أن للمصريين سقف في العنف، وقد رأينا أن مصر هي البلد الوحيد في العالم الذي قامت فيه جماعات العنف بمراجعات، وقد اهتز ضمير الإرهابيين أنفسهم بعد مقتل 67 سائحا في الأقصر، رغم أن هذا العدد " فسفوسة" قياسا إلى بما يجرى في الجزائر، والعراق، ويقول التاريخ إن ثورات مصر كانت كلها لينة، وقد رأينا أن جماعات الاحتجاج التي هبت في الآونة الأخيرة كانت حريصة في خطابها على تأكيد ثقتها في الرئيس، وان ما تطالب به ليس إلا حقوقا مالية عادلة، ومضى الدكتور سعيد إلى القول بان تلك الحركات في رأيه عمل ايجابي ينطوي على تدريب وتجريب، وسيتمخض عنها في النهاية الطريق المصري الخاص المقبول للتغيير.
وقال الدكتور عبد المنعم "إن عدد الأقباط يتناقص لا لأسباب سياسية أو اقتصادية كما يقال، ولا لان ذاك لم يتم تعيينه في المخابرات، أو في الرقابة، أو كذا، ولكن لان الحياة في المربعات السكنية لم تعد مريحة".
القي الدكتور عبد المنعم بالكرة إلى المجتمع، لكنه لم يحدد المسئول عمن دفع المجتمع إلى هذا الطريق.
وكان الكاتب الصحفي نبيل زكى قد طالب بإصلاح ديني، وجمهورية برلمانية، وحذر من أن الحال لا يحتمل التغيير المتدرج، كما قال الأديب جمال الغيطانى: إن حاجزا تولد بالفعل بين المسلمين والمسيحيين وان خناقة على قزازة بيبسي قد تكون الشرارة التي تهدد سلامة الدولة، وقال الكاتب الصحفي سعد هجرس: إن العقلاء في الحكم يتناقصون وان قاعدة الحداثة تتآكل بشدة، ولذا فالانفجار وارد في أي لحظة.
بدوره واصل عبد المنعم سعيد ليؤكد أن ما يقوله داخل الوطني وفى أي موقع لا يتغير، وان مواقفه من أول رفض ما جرى مع أيمن نور، إلى تحفظاته بشان ملف الأقباط، وبعض القضايا السياسية معروفة، ووافق على ما أبداه الغيطانى من أن هناك من يحصل على مليون جنيه شهريا، بينما الغيطانى نفسه خرج إلى المعاش بـ1300 جنيه، وقال سعيد: الموهوبون في مصر تتم سرقتهم، وقد شهدت مؤسساتنا في السنوات الأخيرة تشوهات مرعبة، وهنا سأله حازم شريف عن خطته للأهرام، وكيف سيواجه ما فيها من نصيب من تلك التشوهات فرد بأنه سيعيد الاعتبار أولا إلى المنافسة، وسيعمل على أن ينال كل فرد (10 آلاف صحفي، وموظف، وفني، وعمالة معاونة، إضافة 1400 مؤقت) الحد الأدنى المقبول، بعدها سيتم تمييز الموهوبين والأكثر نشاطا ومبادرة، مهما كانت التكاليف، وهدفه في النهاية "أن يعود الأهرام كمنبر فكرى رائد يدافع عن التحديث والدولة المدنية"، وعندما قالت ماجدة الجندي إن الصراع الدائر حول "الضبعة" منتجع أم مفاعل يكشف جوهر ما يجرى في مصر من قيام رجال الأعمال بتغليب الخاص على العام.
رد الدكتور عبد المنعم قائلا: إن أمام رجال الأعمال مئات الكيلو مترات على الساحلين الأحمر والمتوسط لبناء منتجعات ولذلك يجب أن ننصت جديا لحججهم فقد لا يكون هدفها الأرض كما نتصور، ملمحا إلى أن قرار الدولة قد يصدر ببناء المفاعل في الضبعة ليس اقتناعا، ولكن خضوعا للرأي العام، ودون دراسة متأنية فهل سنفرح ساعتها ؟
واستغرب سعيد أن يكون في مصر أزمة أراضى، وقال إن البعض صنع ذلك ليتكسب منه، وبالإمكان بسهولة الإعلان عن قطع أراضى بمساحات ضخمة في الصحراء الواسعة لتلبية كل الطلب بأسعار بسيطة، ودعا إلى إنشاء هيئة مستقلة تماما لتخصيص الأراضي في مصر.
وتطرق جمال الغيطانى إلى الصراع العربي الإسرائيلي، فقال إن جوهره ثقافي حضاري، ولذا فان تدهور التعليم عندنا يصيبنا بالخوف، وعلق سعيد بالقول: انه حارب إسرائيل كثيرا بكل الأساليب ومنها العسكري، وانه يرى أن من الأهمية بمكان تجميد الصراع حتى لا ننزلق مرة أخرى إلى كمين الاختيار بين الانتحار أو الاستسلام.
وفى مداخلته فند الدكتور محمد أبو الغار ما ذهب إليه عبد المنعم سعيد من قيام الديمقراطية في اسبانيا والبرتغال في اثر عمليات تصنيع وتنمية، وقال: إن ذلك حدث بضغوط شديدة من أوروبا، وفى المقابل فان ضغوطا شديدة تتم ممارستها ضد مصر حتى لا تقوم فيها ديمقراطية، لان الديمقراطية مع أي نظام بمصر خطر على إسرائيل، مضيفا: إن كل زعماء مصر للأسف لم يؤمنوا بالديمقراطية، ما عدا مصطفى النحاس، وهنا قال الدكتور سعيد انه يرى أن الديمقراطية قضية الداخل، وانه ضد أي تدخل خارجي بشأنها، واعتبر أن أهم ما يمكن أن نأخذه من الخارج هو التكنولوجيا، والتقنية، فوجودها سيساعدنا على النمو الذي يقود لاحقا إلى تطور ديمقراطي مصري.
وأشار إلى النماذج التي حاولت تطبيق الديمقراطية قبل أن تنضج الأوضاع، وما جرى فيها مثل موريتانيا والسودان أيام ما قبل البشير، بل وذهب إلى حد أن الديمقراطية كانت مشكلة في الهند ذاتها، لأنها قامت قبل الأوان، وذلك حتى 1992 حينما قرر حزب المؤتمر الحاكم انه إما المنافسة، وإما الانهيار، ومضى قدما في عملية تطوير صعبة لبناء الاقتصاد الذكي، متجاوزا كل أشكال الرفض والاحتجاج الشعبوى، وذلك ما صنع فارقا في مكانة الهند اليوم.
لم يرد الدكتور عبد المنعم على سؤال طرحه الدكتور توفيق اكليمندس حول ما يقال عن صنع بؤرة إصلاحية في قيادة الحزب الوطني، وجعلها تتسع وتتسع إلى أن تشمل البلاد، لكن الشواهد تشير إلى أن تلك البؤرة ذاتها معرضة للتآكل حتى قبل أن تخرج من إطارها الضيق.
وتدخل الكاتب الصحفي الكبير مكرم محمد احمد بالتأكيد على أنه "من الصعب تقبل أن مصر تمضى هكذا في الاتجاه الصحيح، وان من الضروري حدوث تدخل حاسم وحكيم وواع لوضع الدولة على مسار التقدم، مشيرا انه لا توجد لدينا أي خريطة حقيقية تقول إن الطبقة المتوسطة زادت أو انكمشت في مصر حتى نحكم على جدوى سياسات الإصلاح في السنوات الماضية، لكن الظاهر للجميع وجود قمم من أبناء تلك الطبقة تعلقوا بعربة الحزب الحاكم، ومارسوا السيطرة والاحتكار مع دفع شوية ضرائب لا لأنهم يؤمنون بمبدأ التمثيل - السالف الإشارة إليه - ولكن لأنهم ببساطة جزء عضوي من الحكم".
وقال مكرم: إن جيل الـ30 عاما الذي تحدث عنه عبد المنعم سعيد، قد يكون هو نفسه جزءا من الغضب القادم، لأنه بلا خريطة طريق، ولان المجتمع عاجز عن محاورته.
وفي محاولة لتسوية مقبولة، قال هاني الحسيني: انه إذا كان الدكتور عبد المنعم يطالبنا بالا نختلف حول فكرة المنافسة، فانا أطالبه بالاعتراف بأهمية الدور الاجتماعي للدولة، والذي لم يعد يمارى فيه احد.
وفى نهاية الحوار قال الغيطانى: إن عسكري المرور الذي لا يحمل شيئا، كان يخيف الحرامى المسلح، لان الدولة كان لها وجود، وقد حدث ذلك في العهدين، الليبرالي، والناصري، والآن فالمواطن العادي لازال من طبعه انه يحب أن يرى حسنى مبارك معه في حجرته الخاصة، بمعنى انه كمصري اعتاد ويرحب بهذا الحضور المكثف للدولة، رقيبا، وحاميا، ومن هنا يشعر بالذعر من الانكشاف الذي نحياه اليوم.